كان أحد العلماء ينقب في مقبرة قديمة فارغة، لم ير فيها جثة، وظن أن يداً أثيمة امتدت إلى المقبرة، لتختلس كل شيء، مما يودع عادة من كنوز وأثار، ولكنه لم ير ما يدل على عبث اللصوص، ووجد على العكس من ذلك درجًا مغلقًا ففتحه ليرى رسالة عن الخلود يقول فيها صاحبها : «لا يستغربن أحد إذا جاء إلى قبري ولم يجدني. فأنا في واقع الأمر، ليس القبر مثواي، بل أنا في دنيا الخلود، والخلود ليس أكذوبة أو وهمًا، بل هو الحقيقة التي أحياها إلى الأبد، لا تجزع أيها القاريء إذ دنا منك الموت لأن ليس في عالم الموت بالنسبة للمؤمن ما يخيف، ولا تظن أنك فان، وان ما تعمله سوف لا تجازي عليه. إنك لم تخلق عبثًا وحياتك على الأرض لم تكن بغير معنى أو قصد. إنك قد وجدت لتكون مصدر نفع وخير لهذا الوجود. وإن حياتك الأرضية ليست إلا مقدمة لحياة أبدية خالدة. فالموت لن يغنيك لأنك ستظل حيًا إلى الأبد. واعلم أن الناس جميعًا هم نتاج ما صنعته يد الله القديرة. فهذا الإله العظيم هو الذي يصوغ أشكال الناس ويصقلهم ليخرجوا ممهورين بطابعه وآخذين شكله ومثاله، فطب نفسًا أيها الإنسان لأنك سوف تحيا خالدًا في دائرة كون إلهك الخالد. فافرح بما حباك الله من نعمة الخلود واهتف معي هتاف المجد والحبور. »
وطوى العالم الرسالة بوقار ووضعها مكانها ثم خرج من المقبرة وهو يردد : «هذا كلام نبي، إنه صوت يدوي من ظلمات القبور ولابد أن يكون هذا الضريح قد حوى جثمان نبي أو قديس رجع جسده إلى التراب، ولكن صاحبه يعيش بروحه الخالدة، ويرغب في أن يسمع أبناء هذا العالم رسالة الخلود!! »0
لا توجد في الكتاب المقدس كله رسالة تتحدث عن القيامة - باستثناء قيامة المسيح نفسه من بين الأموات - أفضل من قيامة لعازر، القيامة التي قال عنها اسبينوزا الفيلسوف اليهودي، إنه لو أمكن أن يؤمن بها لحطم نظرياته جميعًا وقبل الإيمان المسيحي، فإذا قد تعرضنا في القصتين السابقتين لقيامة ابنة يايرس، وابن أرملة نايين، ورأينا الأضواء العظيمة في كليتهما، فلعلنا نستطيع هنا أن نرى أنواراً أبهى وأعظم، ومع أن الكتاب لم يسجل كلمة واحدة نطق بها لعازر، إلا أن قصته تدوي في كل التاريخ بأعظم ما يكون الصوت والدوى، وها نحن لا نراها فيما يلي :
لعازر وبيته
عاش لعازر في بيت عنيا الواقعة على بعد ميلين إلى الشرق من مدينة أورشليم، وعلى الأغلب كان بيته من أظهر البيوت، وربما أغناها في قرية بيت عنيا، ويظن البعض أن حديقة جثماني التي كان يلجأ إليها المسيح كانت ملكًا لهذه الأسرة المكونة من مرثا الأخت الكبرى، ومريم، ولعازر، وقبل أن نتحدث عن قيامة لعازر لابد من الاشارة إلى ميزات هذا البيت العظيم القديم! لقد كان أول مظهر له أنه صورة البيت المترابط المتضامن وهو يمثل الظاهرة التي مازالت ظاهرة إلى اليوم في الشرق، ومازالت في الكثير من البيوت الشرقية أكثر بروزًا وظهورًا مما في بيوت الغرب، والتي تفككت فيها الوحدة الأسرية، بدعوى الاستقلال والحرية وتحمل المسئولية، والله وحده يعلم إلى أين ستنتهي الحضارة الغربية مع رسوخ هذه النزعة في المفهوم الغربي!!... أراد واحد من السماسرة الذين يبيعون البيوت إغراء سيدة عصرية بشراء منزل، فصرخت : منزل وهل أنا في حاجة إلى منزل. لقد ولدت في مستشفى، وتعلمت في كلية، وأملك سيارة، وتزوجت في كنيسة، وأقضي الصباح في لعب الجولف، والظهر على مائدة البردج، وفي المساء في السينما، وعندما أموت سأدفن في قبر، أنا في حاجة فقط إلى جراج، هذا النوع من الناس لا يعلم بدفء الحياة البيتية، والعالم لا يستطيع أن يقدم ما يوازي هذا الدفء والحب والشركة الأخوية، مهما بذل أو أعطى أو جاء!
على أن هذا البيت كان أكثر من ذلك بيتًا للمسيح، وبعضهم يعتقد أنه لم يوجد بيت على الأرض، كان المسيح يحس فيه أنه في بيته بكل ما في الكلمة من معنى، مثل هذا البيت العظيم القديم، كان البيت المحبوب من المسيح، وكان البيت الذي يحب يسوع المسيح، ونحن لا نعلم كم على درجة كان البيت من الثراء المادي، لكننا نعلم أنه البيت الذي كان في أعلى مستوى من الثراء الروحي، فهناك مرثا التي تحب يسوع، وقد أحبته إلى درجة الارتباك بتهيئة أفضل وأفخم مائدة له، وهناك الفتاة الحالمة مريم التي يستهويها الجلوس عند قدمي يسوع، والتي تنسي الدنيا بأكملها عندما تجلس عند موطيء قدميه لتستمع إلى كلماته الحلوة التى لا يوجد في الدنيا نغم أحلى منها وأجمل، والتي سكبت عطرها على رأسه وقدميه، وخرج هذا العطر من نافذة البيت يستنشقه التاريخ بأكمله، وهناك لعازر الذي لم يسجل الكتاب كلمة واحدة له، ولكن سجل كلمة رائعة عنه : «لعازر حبيبنا».. هل كان الرجل قليل الكلام عميق التأمل؟! وهل كان ذلك الإنسان الذي لا يحسن التعبير عن حبه بالكلام، بقدر ما يعبر عنه بالحركة والإيماءة والابتسامة والصمت؟! على أي حال لقد كان هذا البيت من أسعد بيوت التاريخ تعلقًا بيسوع المسيح وارتباطاته، وكان واحدًا من البيوت العظيمة التي أجلست يسوع ملكًا عليها جملة وتفصيلاً.
ما أجمل هذه البيوت وما أعظمها، عندما تعطي المسيح مثل هذه المكانة، وتكون من السقف إلى الأرض ملكًا خالصًا له، عندما رسم الأسقف إدوين هولت هيوجز في الكنيسة الميثودستية، أرسلت إليه أمه خطابًا تقول فيه : «إنه يبدو لي غير بعيد ذلك الصباح الذي وضعك الله فيه بين ذراعي، ولم أشعر قط أنك خرجت من بين ذراعيه، وأنت آت إلى، وأنا الآن أفعل ما سبق أن فعلته كثيرًا، إذ أضعك بين ذراعي الله. أني أسلمك بفرح للمسيح مطلقًا وإلى الأبد، أنت خادم للمسيح، وهو سيحفظك ويرشدك، ويقويك ويعزيك، وإذا حدث أن أخذني في عنايته قبلك، فاني سأنتظر مجيئك بفخر، وكما حدث وأنت تجيء إلى لابسًا بزتك العسكرية عندما كنت جنديًا، فانك ستأتي حاملاً سمة المسيح : «نعما إيها العبد الصالح والأمين... كان بيت لعازر جميلاً بالتضامن الحبي بين أفراده، وأجمل - بما لا يقاس - بارتباط هذا البيت بيسوع المسيح!!
لعازر ومرضه
أرسلت الأختان إلى المسيح قائلتين : «ياسيد هوذا الذي تحبه مريض» ولعله يجمل بنا أن نقف هنا بعض الوقت أمام هذه العبارة البليغة الموجزة، وهي تفصح عن أكثر من معنى، ولعل أول المعاني، أن حب المسيح لم يمنع لعازر من المرض، ولم يمنعه من الوقوف على حافة الموت عندما أرسلت الأختان إلى السيد، وهما منزعجتان من التدهور في حالة أخيهما المحبوب، وهي قاعدة ينبغي ألا تجهلها بمظنة أنه ما دام المسيح يحبنا فنحن بمنجاة من التجارب والمتاعب والمآسي. ولسنا نظن أن هناك وعدًا واحدًا في الكتاب بذلك، وقصة أيوب ستظل مثلاً خالدًا لذلك، وصرخة آساف في المزمور الثالث والسبعين تشهد أيضًا بهذه الحقيقة : «لأني غرت من المتكبرين إذ رأيت سلامة الأشرار لأنه ليست في موتهم شدائد، وجسمهم سمين، ليسوا في تعب الناس ومع البشر لا يصابون» (مز 73 : 3 - 5) إن الوعد الإلهي لا يعطي حصانة ضد التجارب، ولكنه يعطي يقينًا بسير الله معنا فيها، ومعونته للانتصار عليها : «إذا اجتزت في المياه فأنا معك وفي الأنهار فلا تغمرك إذا مشيت في النار فلا تلدغ واللهيب لا يحرقك» (إش 43 : 2) .. قال الرسول بولس عن ابفرودوتس : «فانه مرض قريبًا من الموت لكن الله رحمه وليس إياه وحده بل إياي أيضًا لئلا يكون لي حزن على حزن» (في 2 : 27) .... كان لرجل ملحد عبد مؤمن وكان العبد كثير الأمراض والمتاعب، وقال سيده له ذات يوم، إذا كان هناك إله كما تقول فلماذا تكثر متاعبك وتجاربك، في الوقت الذي انعم أنا فيه بالكثير من الخيرات والمتع، وأستأذن العبد في الجواب إذا كان لا يرضى سيده، وهو يقول : عندما نخرج ياسيدي للصيد هل تسارع بالسعي وراء الصيد الجريح أم الميت، قال : الجريح طبعًا فالميت مضمون.. فقال العبد : إن الشيطان يسعى ورائي مع جراح التجارب لأني أشبه الصيد الجريح أما أنت فمضمون في يده، وهو لذلك لا يجهد نفسه معك كثيرًا!! على أي حال مهما تكن بلايا الصديق فمن جميعها ينجيه الرب!!
على أن المعنى الثاني الواضح في المرض، هو أن الأختين استنجدنا بالمسيح في المرض، بالقول : «هوذا الذي تحبه» ومع أن المسيح أشار إلى : «لعازر حبيبنا» إلا أن الأختين حرصتا على القول : «الذي تحبه» أكثر من القول : «الذي يحبك».. وهي كلمات غنية جدًا بالمعنى العميق فنحن نلجأ إلى المسيح لا استنادًا على حبنا له، بل إلى حبه هو لنا، وشتان ما بين الاثنين فأولهما حفنة الماء، وثانيهما في المحيط الطامي، فحبنا مهما قوي للمسيح لا يعد قطره من حبه الأبدي لنا، بل عندما يضعف حبنا أو يتعثر أو يهتز تحت هذا أو ذاك من ضربات الحياة أو متاعبها أو تجاربها، فإن حبه لا يتغير قط لأنه الله محبة! والمعنى الثالث في التعبير واضح من أن الأختين أرسلتا إليه الخبر دون طلب أو تعليق، فلم تطلبا مثلاً سرعة مجيئه أو ما أشبه، بل تركتا لحبه أن يتصرف كما يشاء ويريد، ولحكمته أن تفعل ما تراه مناسبًا لمواجهة الموقف دون الحان أو الحاح. والحقيقة على أي حال ثابتة، إذ أن المسيح أكثر حبًا للعازر من أختيه، وأكثر قربًا لنفوسنا من نفوسنا ذاتها، وعندما لا نهتم بأحوالنا أو حينما تتبلد أذهاننا أو مشاعرنا، فهو أقوى فكرًا وأعمق حسًا من أفكارنا وإحساساتنا مهما عظمت أو ارتفعت أو تسامت!! وإذا كان الناس قد درجوا على القول : أرسل حكيمًا ولا توصه!! فإن واجبنا الدائم الأبدي أن نضع أمورنا بين يدي السيد واثقين أنه يفعل أكثر جدًا مما نطلب أو نفتكر بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع!!
لعازر وموته
كانت المسافة بين بيرية وبيت عنيا حوالي يومين، فإذا كان المسيح قد مكث بعد سماع خبر مرض لعازر يومين، وإذا كان وصوله إلى بيت عنيا في اليوم الرابع لموت لعازر فمعنى ذلك أنه عندما وصله الخبر كان لعازر قد مات في اللحظة التي قال فيها السيد : «لعازر حبيبنا قد نام» (يو 11 : 11) غير أن وجه الصعوبة هو في تأجيل المسيح ذهابه إلى بيت عنيا، والأختان تحتاجان إليه في المرض وفي الحزن على حد سواء، فلماذا تصرف المسيح على هذا الوجه الغريب المثير، مع أنه كان لابد ذاهبًا : «لكني أذهب لأوقظه».
إن الروائي الأعظم الذي سجل المسرحية الأبدية يكشف عن حقائق كثيرة أولاً أنه لا يترك ثانية واحدة لمجرد الصدفة لتلعب دورها في الحياة، إذ أن خالق الزمن أعطى لكل ثانية مكانها في مسرحية الحياة، في حياة الفرد أو البيت أو الأمة أو العالم هناك نهار وليل، وهناك وقت محدد للعمل نهارًا، ووقت ينتهي فيه العمل عندما تنتهي الحياة الأرضية، «أليست ساعات النهار اثنتي عشرة. إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم» (يو 11 : 9) وحياة المسيح على الأرض كانت النهار الذي لا يمكن أن يترك فيه ساعة واحدة بدون عمل، فإذا قال له التلاميذ إن حياته في خطر مؤكد، أكد أن الإنسان لا يموت قبل أن يؤدي رسالته في النهار وكل واحد باق حتى يتمم هذه الرسالة، على أن الأمر أكثر من ذلك إذ أن كل جزء في مسرحية الحياة له الوقت المقابل له بالمعنى الذي ذكره الجامعة : «لكل شيء زمان ولكل أمر تحت السموات وقت. للولادة وقت وللموت وقت. للغرس ولقلع المغروس وقت. للقتل وقت وللشفاء وقت. للهدم وقت وللبناء وقت. للبكاء وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت. لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت. للمعانقة وقت وللانفصال عن المعانقة وقت. للكسب وقت وللخسارة وقت. للصيانة وقت وللطمع وقت. للتمزيق وقت وللتخييط وقت. للسكوت وقت وللتكلم وقت. للحب وقت وللبغضة وقت. للحرب وقت وللصلح وقت» (جا 3 : 1-8).. وقصة لعازر بهذا المعنى كان لابد أن يبقى فيها لعازر في القبر أربعة أيام مع ما يصاحب ذلك من أفكار وانفعالات وأعمال، عند جميع الذين ظهروا مرتبطين بالقصة في كل شيء!! ونحن لا نستطيع أن نفهم معنى قول المسيح : «ساعتي لم تأت بعد» إلا إذا أدركنا أنه يدير التاريخ كله بهذا التوقيت الذي لا يتأخر ولا يتقدم من موعده الأبدي المحتوم!!
على أن من بيده الأمر جعل في الأزمة امتحانًا محددًا، فالتلاميذ في حبهم للسيد فزعوا لأن اليهود كانوا يريدون القضاء عليه بأي صورة من الصور، وهم يؤكدون أن ذهابه إلى بيت عنيا معناه الخطر المحقق، لكن السيد أرادهم أن يعلموا أن الواجب على الدوام فوق الخطر، وسواء نواجه الخطر أو لا نواجهه فإن نداء الواجب ينبغي أن يتفوق على كل شي !! قال البحار للقبطان الذي طلب منه أن يعد القارب إذ سمع استغاثة آتية من البحر الهائج : ياسيدي سنذهب ولكن الأمواج الهائجة لن تمكننا من العودة، وأجاب القبطان : ينبغي أمام الاستغاثة أن نذهب وليس من المحتم أن نعود!! ويخيل إلى هنا أن توما كان من هذا النوع العظيم من الرجال إذ أيقن الخطر، ورأى بطبيعته المتشائمة أن المسيح لن يعود حيًا من هذا الخطر، فإذا كان لابد فالأفضل أن يذهب التلاميذ جميعًا مع السيد : «فقال توما الذي يقال له التوأم للتلاميذ رفقائه : لنذهب نحن أيضًا لكي نموت معه» (يو 11 : 16).
وكانت الأزمة أيضًا أمتحانًا للأختين اللتين لم تتوقعا أن يتأخر السيد عنهما، أو عن معونة لعازر حتى ولو من على بعد، لكنهما مع ذلك لم يتبدد إيمانهما به وبحبه، قد يعتبان عليه التأخر، لكن الكارثة لا يمكن أن تبدل عاطفتهما من ناحيته، وستظل الأختان وفيتين للسيد على البعد أو القرب، في الحياة أو الموت على حد سواء!!
ولم تكن الأزمة امتحانًا حسب، بل هي الفرصة الأعظم، وإن تأجيلات الله، دائمًا لتؤكد أنه لا يوجد وقت متأخر بالنسبة له، وأن الأزمة تتصاعد، لكي تشكف عن قدرة أعظم وأجل وأمجد وأبهر، وصانع الزمن لا يمكن أن يفلت الزمن من بين يديه، وأن للسيد الرب في الموت مسالك ومخارج.
لعازر وقبره
لم يدخل المسيح القرية، بل سار إلى القبر خارج القرية، فالعادة أن القبور كانت تنحت في الصخر على مقربة من المدن أو القرى، وهناك التقى بمرثا ومريم ومن جاءوا ليعزوهما الذي خرجوا في أثرهما إلى القبر، ولعله من اللازم التوقف لنرى المسيح في موكب الموت أمام القبر : «فلما رآها يسوع تبكي واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال أين وضعتموه. قالوا له تعال وانظر بكى يسوع» (يو 11 : 33 - 35) والسؤال الذي اختلف الشراح عليه هو لماذا بكى المسيح، وهو يعلم تمام العلم أنه سيقيم لعازر بعد دقائق قليلة، ولعله من المناسب قبل كل شيء، أن نلاحظ أن الكلمة «انزعج» في الأصل اليوناني، ترينا شخصًا يهتز جسمه اهتزازًا قويًا من الانفعال الذي يحاول ضبط نفسه تجاهه، والكلمة بكى تختلف في الأصل هنا عن الكلمة «بكى على أورشليم» فهي هنا أدنى إلى الدموع دون صوت، أما عن أورشليم فهي البكاء الذي هو أقرب إلى الصراخ بصوت مسموع، فلماذا اهتز المسيح وتساقطت الدموع من عينيه هنا، هناك من يذهب إلى أن المسيح بكى لأنه سيرجع لعازر مرة أخرى إلى دار الشقاء، إلى درجة أن القديس يوحنا فم الذهب قال إن المسيح فرح عندما سمع أن لعازر مات، وبكى عندما جاء ليعيده إلى الحياة، وقالت القديسة تريزا إن لعازر توسل إلى سيده في السماء ألا يرجعه إلى الأرض بأي حال من الأحوال، ولكن السيد يدعوك إذ أن لك عملاً باقيًا في الأرض» وصمت لعازر هنيهة وخلع ثيابه النورانية، وعلق قيثارته ليعود مرة أخرى إلى دنيا المتاعب والآلام!! على أن آخرين ذكروا أن انزعاج المسيح وبكائه جاءا عن رؤية القبر، والموت من ورائه، والخطية من وراء الموت، والشيطان من وراء الكل، وهو يفزع لأنه يرى أحباءه جميعًا يجتازون هذا الوادي المخيف، وادي الموت، على أن الرأى الأبسط ولعله الأصح، هو أن المسيح في موكب الحزن - وقد أخذ ثوبنا البشري، وجاء محبًا عجيبًا - لابد أن تختلط دموعه بدموعنا، وأحزانه بأحزاننا بل بتعيير أدق وأصح، إن عليه أن يحمل أحزاننا وأوجاعنا، ولمن أصعب الأشياء التصور أنه لا يبالي بالألم الإنساني الرهيب، وعلى وجه الخصوص آلام اخوته وأحبائه، وإذا كان ألم البشر لم يجعله مستريحًا في عرشه السماوي - ان صح هذا التعبير - فإنه لا يستريح قط وهناك قلب مكسور ونفس باكية، وكما قال أحدهم : إن عاطفة المسيح تحولت دموعًا ظاهرة للإنسان ليكتشف كم هو عميق الإحساس والمحبة!! ولعل هذا يذكرنا بما قاله جبران خليل جبران : «إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحتها بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها في الشعور وتشاركها في الإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب في أرض بعيدة عن وطنيهما، فالقلوب التي تدينها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها فرابطة الحزن أقوى في النفوس من رابطة الغبطة والسرور، والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلاً وخالدًا، والمسيح في قصة لعازر لا يريد أن يبهرنا بعظمة القيامة، قبل أن يكشف لنا على نحو مبهر عظيم، على رقته في وادي الآلام والأحزان والتعاسات!!
لعازر وقيامته
كشفت قيامة لعازر من بين الأموات عن حقائق عجيبة أساسية، أولها أن القيامة ليست خيالاً أو وهمًا يراود الإنسانية، بل هي حقيقة مؤكدة كشف عنها لعازر بعودته بعد أربعة أيام من الموت، وقف القس يصلي أمام جثمان شاب راحل وهو يطلب العزاء للمحزونين قائلاً : «إننا نستودع حبيبنا بين يديك أيها الحبيب، وديعة منا لديك إلى يوم القيامة، إذ سوف نراه كما هو، وبعد أن ووري في القبر جاء أخوه باكيًا وهو يقول : «هل حقاً سنتقابل معًا وهل أعرفه ويعرفني أخبرني أيها القس فهذا آخر أمل لي».. وابتسم القس وربت على كتف الشقيق الحزين وقال : «أي سعادة لنا في هذه الحياة لو تبخر من قلوبنا هذا الأمل، وتسرب إلينا الشك في يوم اللقاء!.. ،إذ لاحظ تردد الشاب في قبول الفكر قال له : يحدثنا الكتاب المقدس عن حادثة غريبة مازالت موضع دراسة الكثيرين من علماء العالم وفلاسفته، وهي حادثة التجلي التي ظهر فيها مع المسيح موسى وإيليا، فلو أن موسى وإيليا لم يكونا بذواتهما كما كانا قبل مغادرتهما هذا العالم فكيف استطاع بطرس أن يقول : ياسيد جيد أن نكون ههنا، فلنصنع ثلاث مضال. لك واحدة، ولموسى واحدة، ولإيليا واحدة» (مرقس 9 : 5) ولو ذكر الكتاب حادثة التجلي دون أن يشير إلى من ظهر مع المسيح لفقدت الحادثة الكثير من قيمتها، ولما نما بين جنباتنا الأمل وبهجة الحياة الأخرى مع باقي المحبين في المسيح، إن الحياة الثانية ليست منفصلة عن هذه الحياة كما يظن الكثيرون، بل إنها في الحقيقة بداءة الآمال الحلوة التي يتعلق بها كل مؤمن يثق في وعود المسيح الصادقة!! وإذ امتلأت عينا الفتى بالدموع، استطرد الراعي يقول : ماذا عملت قيامة المسيح لنا : هل مات على الصلبي عبثًا أيها الباكي.. لقد شقت القيامة الحجاب الحاجز. وفتتت الصخور العاتية، ونشرت في كل مكان سلامًا لا يمكن أن يهبه العالم أبدًا! وسأل الفتى الراعى : «وهل قام المسيح كما كان قبل الموت والدفن، ولماذا لم تعرفه مريم عندما رأته؟ وقال الراعي وقد اطمأن إلى مقدرته على إقناع الفتى، باسمًا : «نعم لم تعرفه مريم في البداءة إذ ظنته حارس البستان، ولكن هل نسيت ظهور المسيح للتلاميذ، ألم يعرفه الجميع؟ وتوما الذي شك وإذا به يسمع كلام المسيح أن يمد يده ليلمس الجروح في يديه وجنبه، وعندما صعد إلى السماء ماذا قالت الملائكة للتلاميذ المندهشين؟ ألم تعلمهم بأن المسيح هذا الذي يرونه الآن صاعدًا إلى السماء سيأتي مرة أخرى كما رأوه صاعدًا؟!
كانت مرثا تؤمن بالقيامة في اليوم الأخير، ولكن المسيح أعطاها برهان هذا اليوم التليد العتيد حقيقة واضحة في قيامة أخيها من بين الأموات!! وقد كشف المسيح حقًا أنه القيامة والحياة، وليس مجرد كلمات تلقي لتذهب أدراج الرياح، بل الحقيقة التي تقع على مشهد من جميع الذين حضروا مع مريم ومرثا والتلاميذ في ذلك اليوم العظيم!!
وأظنه مودي الذي قال إن المسيح وهو ينادي : لعازر هلم خارجًا، لو لم يحدد الأسم لعازر لخرج جميع الموتى من القبور إلى عالم الأحياء!! ولكن ذلك له موعد آخر، لكن قيامة لعازر تعطي الصورة لتلك القيامة العتيدة، أن المسيح وحده الذي أقام الموتى، هو هو الذي سيقيم بكلمة واحدة في يوم القيامة جميع الموتى حين يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين فعلوا السيئات إلى قيامة الدينونة!! (يو 5 : 28 و29).
على أنه من العجيب أن قيامة لعازر، كيوم القيامة الأخير، وضعت فاصلا بين المؤمن وغير المؤمن، فبعض اليهود أمام هذه الآية آمنوا بالسيد، لكن البعض الآخر، بلغ من الحماقة والعناد والشر، حدًا فضلوا معه الموت على الحياة، فقرروا القضاء على المسيح واهب الحياة ووضعوا تخطيطهم لسلب الحياة من مانح الحياة، وأضحت قيامة لعازر نقطة التحول الهامة في منعطف الطريق، إذ قرر قيافا : «أنه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب ولا تهلك الأمة كلها. ولم يقل هذا من نفسه بل إذ كان رئيسًا للكهنة في تلك السنة تنبأ أن يسوع مزمع أن يموت عن الأمة، وليس عن الأمة فقط بل ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد» (يو 11 : 50 - 52) فإذا كان الكثيرون إلى اليوم مازالوا يشغلون أنفسهم بالسؤال ماذا رأى لعازر خلال الأربعة الأيام في السماء، وكيف سارت حياته بعد ذلك في الأرض، فإن الجواب من الصعب تقريره وتحديده، وذلك لأن بولس عندما صعد إلى السماء، وهو لا يعلم إن كان ذلك في الجسد أم خارج الجسد، عندما اختطف إلى الفردوس، سجل : «وسمع كلمات لا ينطق بها ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها» (2كو 12 : 4) فإذا صح أن بولس يعجز بهذا الوصف عن الحديث أو البيان، فإن لعازر لا يقل عنه عجزًا وضعًا، فإذا أمكن للطفل الصغير أن يتحدث عن النظرية النسبية لاينشتين، أو لبدوي خرج على التو من الصحراء، أن يصف أعقد العقول الألكترونية، يجوز للإنسان بالبيان البشري أن يتحدث عن أمجاد السماء!! جاء في تقليد قديم أن طبيبًا عربيًا التقى بعد خمسة وثلاثين عامًا بلعازر، وكتب عن هذا اللقاء، ليصف لنا رجلاً يعيش بقدميه على الأرض، ولكن أحلامه وأفكاره تعيش في مكان آخر في السماء، وهو أدنى إلى براءة الطفل، ووضاءة الوجه الملائكي!! وقد يصح هذا التقليد أو لا يصح، ولكن الحقيقة على أي حال كانت حلمًا خاطفًا للعازر عاش يذكره ويواجه به الحياة فترة لا نعلم قصرت أم طالت حتى عاد مرة أخرى إلى سيده وفاديه مع القديسين في السماء
تنبيه : المرجوا عدم نسخ الموضوع بدون ذكر مصدره المرفق بالرابط المباشر للموضوع الأصلي وإسم المدونة وشكرا
0 التعليقات: